بكلفة باهضة: المقاومة تجدد إسقاط صفقات تصفيتها

Publié le par ErrachidiaNews

                                                                                                 بقلم: ذ.الحبيب الشوباني

كشفت تطورات العدوان الصهيوني الإجرامي على غزة أن ما صرحت به وزيرة خارجية كيان العدو "تسيبي ليفني" في المؤتمر الصحافي بالقاهرة عقب لقائها بالرئيس المصري لم يكن خروجاً عن قواعد اللياقة الدبلوماسية حين تجرأت على إعلان الحرب على حماس من عاصمة دولة يفترض أنها لن تقبل بهذه الإهانة.

فقد تأكد اليوم، بتواتر الأدلة القطعية وروائح الغسيل المنشور لمواقف النظام الرسمي المصري، أن تصفية حماس في غزة وإعادة بسط سلطة عباس عليها كان هدفاً وتدبيراً مشتركاً وقراراً متفقاً عليه لإزالة -ما تعتبره الإدارة الأمريكية والكيان الصهيوني وبعض الأنظمة المستسلمة لمشيئتهما- عائقاً أمام تقدم "مسلسل التسوية" الذي لم يجن منه الشعب الفلسطيني سوى السراب.

وقد كشف محمد حسنين هيكل بشاعة هذا الكيد في حلقة مساء الأربعاء 7 يناير2009 من برنامج "مع هيكل" على فضائية "الجزيرة" القطرية عندما قال "أصحاب القوى الحاكمة في المنطقة كانوا يتصورون في فترة ما أنهم اقتربوا من التسوية السلمية مع (إسرائيل)، لكن فوجئوا بفوز حماس في الانتخابات عام 2006، مما شكل في نظرهم عقبة في مسار التسوية كان مطلوب إزالتها"، مؤكداً في اختصار شديد أن "القضية لم تكن تصرفات حماس وإنما وجود حماس".

غير أنه لفهم جرأة وزيرة الخارجية الصهيونية وهي تعلن حرب الإبادة على الشعب الفلسطيني في غزة لا بد من الاستماع إلى ما نقله بجرأة أكبر الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي وهو ينسب إلى الرئيس المصري قوله "إن حماس لا يجب أن تنتصر في هذا الصراع". وقد علق هيكل على هذا التصريح الخطير بقوله "إن حديث ساركوزي أصاب قوة مصر في مقتل".

نحن إذن أمام تكرار مشاهد من نفس مسلسل ضرب قوى المقاومة المسلحة للمشروع الصهيوني منذ أزيد من ستة عقود ومحاولة تصفيتها بكل الأساليب الدموية المتوحشة، بغض النظر عن عنوانها الإيديولوجي، في تطلع دائم لتحقيق حالة الاستسلام الشامل والنهائي للمشيئة الصهيونية والقبول بتصفية قضية فلسطين من أجندة الوعي والصراع الفلسطيني والقومي والديني والإنساني الذي احتضنها كقضية تحرر عادلة، تماماً كما حصل في تجربة الهنود الحمر في القارة الأمريكية.

غير أن الجديد في ما حصل اليوم يؤكد على حصول تطورات نوعية كبرى تضع المنطقة برمتها على أبواب تغييرات جذرية في الآماد القريبة والمتوسطة نعتقد أنها تسير مجتمعة في صالح قضيتنا العادلة وبدء مسلسل تلاشي القبضة الصهيونية على شعوب المنطقة كمقدمة لتفكيك المشروع الصهيوني وتحقيق وعد الله باسترجاع المسلمين لمقدساتهم وحقوقهم المغتصبة في فلسطين وهو ما تؤشر عليه التوجهات الكبرى الآتية:

سقوط مشاريع التطبيع والتسويات المُذِلَّة: رغم التكاليف الباهضة من أرواح ومقدرات الشعب اللبناني في حرب يونيو 2006 وأرواح ومقدرات الشعب الفلسطيني في حصار وحرب غزة (2006/2009)، فقد قدم النهج الدموي الاستكباري للكيان الصهيوني، من جهة، والأداء البطولي الاستشهادي والتقني المتقدم للمقاومة، من جهة أخرى، خدمة عالية الجودة لتعبئة جماهير الأمة لصالح خيار المقاومة والتحرير والاصطفاف المادي والمعنوي والشعوري خلف هذا الاختيار الأصيل والشرعي. كما ازدادت في المقابل عزلة الأنظمة والمشاريع التطبيعية التي أصبحت مرادفاً للهوان والاستسلام والتنكر للحقوق الثابتة والتماهي مع مشاريع الكيان الصهيوني. وتكمن قيمة هذا التحول في اعتقاد الصهاينة بأن ربح رهان التطبيع ربح للشوط الثاني والأَهَم من معركة الوجود لتأمين مصير الأجيال المقبلة وضمان عيشها العادي وسط جماهير الأمة الإسلامية. 

سقوط أكذوبة المشروع الهَيْمَني الشيعي: عندما أراد رموز الأنظمة العربية "الموسومة بالاعتدال" أخذ مسافة من عدوان الصهاينة على لبنان في صيف 2006 تعللوا بالبُعد الشيعي للموضوع وبكون حزب الله ينفذ أجندة إيرانية في المنطقة كما تعللوا بالطابع المغامر لعملية اختطاف الجنود الصهاينة. غير أن تداعيات المعركة ونتائجها المثيرة قلبت كل الحسابات الخاطئة والصغيرة فارتفعت أسهم المقاومة وتأكد صواب منهجها كما تأكد أن الطابع الطائفي له أبعاد تثويرية وتعبوية مؤكدة وفاعلة داخل مجتمع حزب الله وأن المجتمع السني أيضاً ليس بالهشاشة المذهبية التي يُرَوَّجُ لها كما أكد أن المقاومة ليست مشغولة بهواجس تبشيرية أو معارك هامشية تصرفها عن معركتها المركزية ضد المشروع الصهيوني التي وجدت لمقاومته ودحره. وقد تأكد الطابع المناوراتي والتوظيفي الذي تعتمده الأنظمة المتخاذلة لمقولة المشروع الشيعي مرتين: مرة أمام عجزها الصارخ عن بناء أي رؤية أو مشروع رسمي عربي محتضَن جماهيرياً يقاوم الصَّلَفَ الصهيوني ويتشبث بالحقوق ويكون نِدّاً أو شريكاً للمشروع الإيراني المزعوم في المنطقة بمنطق المصالح العليا لشعوبها، ومرة بالتآمر على المقاومة السُّنِّية المعزولة والمحاصرة في شِعْبِ َغَزَّةَ والتي فاقت نذالة وحقارة وبشاعة التآمر عليها كل خيال.

لقد أكدت المقاومة الإسلامية بفرعيها الشيعي والسني أن القضية الفلسطينية قضية فوق المذاهب والطوائف كما أثبتت بصلابة عودها الفشل الذريع لكل الأطروحات المراهنة على الفتنة الطائفية لخدمة المشروع الصهيوني كما حصل للأسف في العراق لفائدة المشروع الاستعماري الأمريكي.

 سقوط مشروع عزل المقاومة عن شعوبها: مما لا شك فيه أن أصحاب المشاريع الاستسلامية راهنوا دائماً على تكفل الآلة العسكرية الصهيونية بالسحق السريع للمقاومة ورجالها وتكفل الإعلام المُطَبِّع والإباحي والإلْهائي بسحق ثقافتها للتخلص من "وجع الدماغ" الذي يشكله وجود مقاومة واعية تدرك الطبيعة التحالفية والترابط الموضوعي بين الاحتلال والاستبداد كما تدرك أن التعبئة الشعبية العالية مَعْبَرٌ ورافعة ضرورية لاستكمال شروط الصمود والتحدي وتوريث القضية للأجيال حتى يأتي الفَرَج وينكسر القيد. وتؤكد كل المعطيات المرتبطة بهذا الرهان فشله الذريع وأن مطلب انقلاب الشعوب على المقاومة ونبذها جاء بالنقيض تماماً لمقاصده إذ حصل احتضان جارف وتعاطف مذهل للمقاومة ورموزها وأدبياتها وخيارها الذي بات اليوم خياراً شعبياً عارماً كما بات في ذات الآن، وبالمقابل، الخيار الاستسلامي والمتواطئ لبعض الأنظمة والسلوك الانهزامي للنخب المُطَبِّعَة أمراً مرفوضاً ودعاته رموزاً للخيانة والمهانة. لقد تمكنت المقاومة في لبنان وفلسطين، بشهدائها الكُثْرِ من النساء والأطفال والشيوخ، من تكريس الفضح المتجدد للعقيدة العسكرية للجيش الصهيوني كعقيدة دينية عمياء وأن هذا الجيش، كما الشعب الصهيوني، بلا أخلاق وأن زمن انتصاراته السريعة وَلَّى إلى غير رجعة وأن زمن المقاومة الشعبية العقائدية العالية المعنويات والمصممة على ضرب أمن المجتمع الصهيوني وهَزِّ معنوياته قد أصبح قَدَراً لا يمكن رَدُّهُ مهما غَلَتِ التضحيات.

بقي أن يضطلع العلماء والمثقفون والفنانون ورجال الفكر والإعلام والصحافة والمسرح والسينما ورجال القانون باستثمار هذا "التراث" البشع للإجرام الصهيوني بفعالية لصناعة رأي عام دولي مناهض للصهيونية وكيانها المصطنع وجرجرة مجرمي الحرب من زعماء الكيان الصهيوني أمام المحكمة الجنائية الدولية وإقامة محاكمات صورية في كل العواصم العربية والإسلامية والأوروبية وإقامة نصب تذكارية لضحايا الإجرام الصهيوني في كل مكان أو مناسبة لهما دلالة وإبداع فعاليات نوعية ومتصلة لتعميق الهوة النفسية والشعورية لكل أحرار العالم مع هذا الكيان الدموي الذي لن تنعم البشرية، وخصوصاً الشعوب الإسلامية والعربية، بالأمن إلا بتفكيكه وزواله نهائياً كما تم تفكيك نظام التمييز العنصري في جنوب أفريقيا.

بكلمة، لقد أسقطت المقاومة صفقات تصفيتها واحدة واحدة وفضحت فصلاً جديداً من فصول التآمر الرسمي ضد القضية وأسقطت خيارات الاستسلام الذليلة وجندت الرأي العام الإسلامي والعربي والإنساني الحر لصالح خيار المقاومة والتحرير وهذا نصر استراتيجي كبير يُمْكِنُ فهمُ إصرار المقاومة على أداء ضريبته الغالية وتحملها بصلابة أسطورية كَفِعْلٍ استنهاضي جَبَّار للأمة وقواها الحية في أفق التحرير والانتصار الذي يؤمن به كل المؤمنين بالعدالة الإلهية.


                جريدة العدالة والتنمية: العدد 170 بتاريخ: 14 يناير 2009

 

Publié dans مجتمع مدني

Pour être informé des derniers articles, inscrivez vous :
Commenter cet article